عرض مشاركة واحدة
قديم 09-10-2017, 01:20 PM   #2
ابوبيان
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Sep 2011
المشاركات: 2,642
افتراضي رد: III إن الله كان عليكم رقيبا iiii

10- من أسمائه تعالى: المهيمن.

وهو الرقيب الحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم،
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الرعد: 33]،
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
ما شاء كان وما في الكون خافية *** تخفى على علمه بدأً ومنقلباً
إنا إليه أنبنا خاشعين له *** وجاعلين له من ذكره سبباً
فلا شيء في ملكه طوع إرادته *** بمستطيع خروجاً أينما ذهباً
جل الميهمن رباً لا شريك له *** وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهباً

11- من آثار مراقبة الله

فبالمراقبة يعبد الرحمن، ويبنى الإيمان، ويطرد الشيطان، وبالمراقبة يكون جمال الحياة وصلاح الدنيا وسعادة الناس، وبالمراقبة تصلح حياة الخلق مع الله وفيما بينهم، وتصلح ذواتهم، وبالمراقبة تمنع النفس هواها، وبالمراقبة تؤدى الواجبات والحقوق والأمانات، وبالمراقبة تذرف الدموع وتخشع القلوب وتسكب العبرات، وبالمراقبة يقام العدل والوئام، وتصان الحقوق وتحفظ الدماء والأعراض، وبالمراقبة يبر الأبناء آبائهم وتصل الأرحام، فهذه هي المراقبة.

ثانيًا : أنواع المراقبة وحال السلف في مراقبتهم لله
أنواع المراقبة
أ-المراقبة تكون قبل العمل
قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك؛ هل لك فيه نية؟، ما ذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة؟، إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم، حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة من إغاثة المنكوبين أو القيام على الفقراء والأرامل والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هو لله؟، هل للنفس فيه هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة فيتثبت؟، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت، فإن كان لله أمضاه، ويقول: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر".
ب- أثناء العمل:
يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعنا وسجودنا وما نقوله فينا في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصوم ولا نفعل فعلاً يخدشه، ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية أو غير الأعمال الدعوية مما يحبه الله عز وجل ويرضاه أثناء العمل نصحح النية ونتابع فإن القلب كثير التقلب ولذلك قيل له الفؤاد والله أعلم لكثرة تفؤده وتوقده بالخواطر والأفكار والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل. الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام،
والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح. فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر وينكف ويتذكر نظر الله عز وجل إليه.
ج-بعد العمل
هل أخلص لله فيه هل كان كاملا ام ناقصا هل هو نافع أم ضار............
رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا
حال السلف مع المراقبة والمحاسبة
قال أبو حفص: إذا جلست للناس فكن واعظا لنفسك وقلبك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك .
وقال محمد بن علي الترمذي : اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك وأجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمة عنك وأجعل طاعتك لمن لا تستغنى عنه وأجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه .
وسئل ذو النون بم ينال العبد الجنة فقال بخمس استقامة ليس فيها روغان واجتهاد ليس معه سهو ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب له ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب .
وقال سفيان الثورى: عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة
وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا(بستانا) فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك .
وقال الحسن في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضى قدما لا يعاتب نفسه .
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا .
وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفس أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاقلت فأنت في الأمنية فاعملي .
كما نقل عن توبة ابن الصمة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب .
وقال القاسم بن محمد :غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها فغدوت يوما إليها فإذا هى تصلى صلاة الضحى وهى تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتبكى وتدعو وتردد الآية فقمت حتى مللت وهى كما هى فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فقلت أفرغ من حاجتى ثم أرجع ففرغت من حاجتى ثم رجعت وهى كما هى تردد الآية وتبكى وتدعو .
وقيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره .
و يقول الدكتور مصطفى السباعي “إذا همّت نفسك بالمعصية فذكرها بالله، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة قد انقلبت إلى حيوان.”
يقول أحد تلامذة الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: كنت أتعجب من حياة الإمام! وكنت من عجبي به أتبعه في خلواته وجلواته، ثم رأيت منه عجباً، رأيت أنه يقف في اليوم مرات يخرج من جيبه رقعة فينظر إليها ثم يعيدها، يفعل ذلك في اليوم مرات، يقول: فازددت إصراراً في معرفة السر على الورقة، فما زلت خلف الإمام أتبعه، وألحظه في خلواته وجلواته حتى وقعت الورقة في يدي، فنظرت فيها فإذا مكتوب فيها…
يا سفيان ! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، سبحان الله! سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه علم أن هذه النفس تغفل، فأراد أن يؤدبها وأن يربيها، فكتب هذه العبارة في هذه الورقة، فكلما همت نفسه بمعصية أو غفلت، أخرجها فنظر إليها وقرأها فتذكر الآخرة، وتذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل

ثالثًا: نماذج لمن راقبوا الله في سرهم وعلانيتهم
1- أصحاب الغار
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِى جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِى وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِى وَلِىَ صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِىَّ وَأَنَّهُ نَأَى بِى ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِىَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَىَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِى وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ. وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِىَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ عَنْهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً. فَفَرَجَ لَهُمْ. وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّى كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِى حَقِّى. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا فَجَاءَنِى فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِى حَقِّى. قُلْتُ اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا. فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِى . فَقُلْتُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا. فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِىَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِىَ." ([9]). والحلاب : الإناء الذى يحلب فيه اللبن ، ويتضاغون : يبكون ويصيحون
والفرق : مكيال يسع ستة عشر رطلا. فما فعلوا ما فعلوه إلا خوفًا من الله ومراقبته لهم.

2- بنت بائعة اللبن
لمَّا نهى عمر رضي الله عنه في خلافته عن خلْطِ اللَّبن بالماء، وخرج ذات ليلةٍ في حواشي المدينة، وأسند ظهْرَهُ إلى جدارٍ ليرْتاح، فإذا بامرأةٍ تقول لابنتها: ألا تَمْذُقين اللَّبنَ بالماء؟ فقالت الجارية: كيف أمذُقُ وقد نَهى أميرُ المؤمنين عن المذق؟! فقالت الأم: فما يُدْرِي أميرَ المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عُمر لا يعلمُه فإلهُ عمر يعلَم، ما كنت لأفعله وقد نَهى عنه.
فوقعتْ مقالتُها من عمر رضي الله عنه فلمَّا أصبح دعا عاصمًا ابنَه فوصفها له ومكانَها، وقال: اذهب يا بنَيَّ فتزوَّجْها، فتزوَّجها عاصمُ بن عُمر، فولدتْ له بنتًا فتزوَّجَها عبدالعزيز بن مَرْوان بن الحَكَم، فأتتْ بِعُمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه.
إنَّها ذرِّيَّة بعضُها من بعضٍ، ذرِّيَّة خيْرٍ لأمَّتِه وعقيدتِه، وإنَّها ثَمرةُ التَّمكين لهذا الدين في الأرض، ودفعة قويَّة لتوحيد شَمْلِ الأُمَّة الإسلاميَّة على تسخير ما وهبها الله من خوف وإخلاص لله - تعالى - في خِدْمة دينِها أوَّلاً، وفي السياقِ نفسِه توفيرُ إنتاجٍ غذائي يحدُّ من الأمراض القلبيَّة والجسديَّة، ومَن يُساعد على تقوية الإنتاج المحلِّي وتطويره.

3- من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منْه:
ذكر ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في "صفة الصفوة" قصَّة عجيبةً - واللهِ - تنمُّ عن عُمْق الخوْفِ من الله سبحانه وتعالى والأَوْلى - أخي الحبيب - أن تُكْتَب بماء العيون بدَلَ ماءِ الذَّهَب.
قال نافع: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال
له عبدالله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة.
فقال: إنِّي صائم، فقال له عبدالله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم!
فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر، وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟ قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي، قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟ فمضى الرَّاعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله، فما عدا أن قدِم المدينةَ، فبعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم ([10]).

4- والد عبد الله بن المبارك
كان هناك رجل اسمه نوح ابن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق، وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنيا قليلا ولا كثيرا ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء، أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين، جلس تحت شجرة وقال يا مبارك، أتني بقطف من عنب، جاءه بقطف فإذا هو حامض، فقال أتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، قال أتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه ؟
قال : والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو ما رقبتك ، ولا رقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أعجب به، وأعجب بورعه وقال الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والمستشار مؤتمن، وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت ؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم، أي نصيحة وأي مشورة ؟
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيرا من مبارك، قال أنت حر لوجه الله (أعتقه أولا)، ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال أعرض عليها، فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك، قالت أترضاه لي ؟ قال نعم.
قالت : فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكان الزواج المبارك من مبارك، فما الثمرة وما النتيجة ؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلا أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله ابن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيا بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله عز وجل في كل شي، أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامة الأمور.

رابعًا: الوسائل المعينة على مراقبة الله
1- التعرُّف على الله
فالإيمان بأسماء الله تعالى: الرقيب، والحفيظ، والعليم، والسميع، والبصير، والتعبد لله تعالى بمقتضاها يورث مراقبة الله تعالى. فالرقيب الذي يرصد أعمال عباده، والحفيظ الذي يحفظ عباده المؤمنين، ويحصي أعمال العباد، والعليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده، والسميع المدرك للأصوات، والبصير الذي يرى كل شيء.
قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{ [النساء/1]، وقال: }إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ{ [هود/57]، وقال: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [المجادلة/7]، وقال: }إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ [الإسراء/1].
والإيمانُ بأنَّ الله تعالى سميع يمنع من أن يصدر عن المسلم كلام يسخط الله، إنَّ عائشة رضي الله عنها لمَّا جاءت المجادِلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتها تشكو زوجها غاب عن سمعها كثير من كلامها، فلما نزلت السورة قالت: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ الله: }قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..." ([11])
وإذا خلوت بريبـةٍ في ظلمة --- والنفس داعـية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها --- إن الذي خلق الظلام يراني
وقال آخر:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل --- خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفُل ساعــة --- ولا أن ما تخفيـه عنه يغيب
ألم ترَ أنَّ اليوم أسرعُ ذاهــبٍ --- وأن غدا للناظــرين قريب
وهذا شاب وقع أسيراً لشهوته رأى فتاة فراودها عن نفسها وقال لها: لا يرانا أحد؟ ومن يرانا في ظلام كهذا غير الكواكب؟! فقالت: وأين مكوكِبُها؟ فقام وتركها.
وقال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه([12]). وقال رجل لوُهَيب بن الوَرْد رحمه الله : عظني ؟ قال : اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك .

2- علم الله بكل شىء
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [سورة البقرة الآية: 235]
أن تشعر أن الله مطلع على ما في نفسك، أي خاطر يأتيك، وأي حديث نفس داخلي يجري, الله عز وجل مطلع عليه، ويقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [سورة النساء الآية: 1]
رقيب على كل شيء، ونحن أحياناً نراقب ظاهر الإنسان، لكنه جل جلاله يراقب ظاهره وباطنه، أي: هذا الإنسان إذا بقي ساكتاً وساكناً مطلع على قلبه، إذا تحرك مطلع على حركته، إذا نطق مطلع على نطقه، إن كنت ساكتاً ساكناً مطلع على قلبك، إن تحركت يرى حركتك، إن نطقت يسمع كلامك، ما هي المعية العامة وما هي المعية الخاصة؟ : والآية الثالثة: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد الآية: 4]
في أشد حالاتك الخاصة هو معك، في أشد علاقاتك الحميمة هو معك، في خلوتك وفي جلوتك، في سرك وفي علانيتك، في حركاتك وفي سكناتك، هنا معكم بعلمه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد الآية: 4]
بعلمه، لأن المعية العامة تعني العلم، بينما المعية الخاصة تعني التوفيق والحفظ والتأييد والنصر.

3- الخوف من الله وحده
إنَّ المديرَ في إدارته، والمهندِسَ في مكتبِه، والمبَرْمِج في برمَجته، والمدرِّس في مدرسته، والعامِلَ في معملِه، والشرطيَّ في مخفرِه، والقاضيَ في محكَمَتِه، والصحفيَّ في جريدته، والكاتبَ في كتاباته، عمومًا: كلّ مسؤولٍ من موقِع مهمَّته؛ كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجُل راعٍ على أهل بيْتِه، وهو مسؤول عنْهم، والمرأةُ راعية على بيْتِ بعْلِها وولَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته))([13]).
كلٌّ في عملِه، لوِ استحضروا مُراقبةَ الله وعظَمَتَه وجلالَه، وقُدرتَه سبحانه على أن يقتصَّ من عبْدِه الضَّعيف، من جرَّاء عملٍ يُؤْذي ويهدِّد أمْنَ بلدِه الاقتِصاديّ والاجتِماعي والسياسي، لتحقَّقتْ رفاهية البُلدان، وانتشر العدْل، وسادَ تكافُؤُ الفُرَص، وقلَّت البطالة التي تنهش في فلذات أكْباد أبناء هذه الأُمَّة.
يُخطئ مَن يظنُّ أنَّ القوانين وحدَها هي الزَّاجِرة والرَّادِعة لكلِّ المُخالفات، هل تَمكَّنتْ من قطْعِ الطَّريق على الرَّاشي والمُرْتشي؟! هل منعتِ الزَّانيَ من الزِّنا؟! هلْ منعتِ الفَساد الإداري (البيروقراطيَّة)؟! هل حدَّت من حوادث السَّير؟!
هل منَعَتِ الغِشَّ في الأسواق والمؤسَّسات؟! هل قلَّصتْ من عدد الجرائم؟!
ابوبيان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-10-2017 , 01:20 PM
ابوبيان ابوبيان غير متواجد حالياً
عضو مميز
تاريخ التسجيل: Sep 2011
المشاركات: 2,642
افتراضي رد: III إن الله كان عليكم رقيبا iiii

10- من أسمائه تعالى: المهيمن.

وهو الرقيب الحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم،
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الرعد: 33]،
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
ما شاء كان وما في الكون خافية *** تخفى على علمه بدأً ومنقلباً
إنا إليه أنبنا خاشعين له *** وجاعلين له من ذكره سبباً
فلا شيء في ملكه طوع إرادته *** بمستطيع خروجاً أينما ذهباً
جل الميهمن رباً لا شريك له *** وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهباً

11- من آثار مراقبة الله

فبالمراقبة يعبد الرحمن، ويبنى الإيمان، ويطرد الشيطان، وبالمراقبة يكون جمال الحياة وصلاح الدنيا وسعادة الناس، وبالمراقبة تصلح حياة الخلق مع الله وفيما بينهم، وتصلح ذواتهم، وبالمراقبة تمنع النفس هواها، وبالمراقبة تؤدى الواجبات والحقوق والأمانات، وبالمراقبة تذرف الدموع وتخشع القلوب وتسكب العبرات، وبالمراقبة يقام العدل والوئام، وتصان الحقوق وتحفظ الدماء والأعراض، وبالمراقبة يبر الأبناء آبائهم وتصل الأرحام، فهذه هي المراقبة.

ثانيًا : أنواع المراقبة وحال السلف في مراقبتهم لله
أنواع المراقبة
أ-المراقبة تكون قبل العمل
قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك؛ هل لك فيه نية؟، ما ذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة؟، إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم، حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة من إغاثة المنكوبين أو القيام على الفقراء والأرامل والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هو لله؟، هل للنفس فيه هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة فيتثبت؟، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت، فإن كان لله أمضاه، ويقول: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر".
ب- أثناء العمل:
يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعنا وسجودنا وما نقوله فينا في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصوم ولا نفعل فعلاً يخدشه، ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية أو غير الأعمال الدعوية مما يحبه الله عز وجل ويرضاه أثناء العمل نصحح النية ونتابع فإن القلب كثير التقلب ولذلك قيل له الفؤاد والله أعلم لكثرة تفؤده وتوقده بالخواطر والأفكار والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل. الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام،
والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح. فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر وينكف ويتذكر نظر الله عز وجل إليه.
ج-بعد العمل
هل أخلص لله فيه هل كان كاملا ام ناقصا هل هو نافع أم ضار............
رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا
حال السلف مع المراقبة والمحاسبة
قال أبو حفص: إذا جلست للناس فكن واعظا لنفسك وقلبك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك .
وقال محمد بن علي الترمذي : اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك وأجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمة عنك وأجعل طاعتك لمن لا تستغنى عنه وأجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه .
وسئل ذو النون بم ينال العبد الجنة فقال بخمس استقامة ليس فيها روغان واجتهاد ليس معه سهو ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب له ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب .
وقال سفيان الثورى: عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة
وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا(بستانا) فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك .
وقال الحسن في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضى قدما لا يعاتب نفسه .
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا .
وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفس أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاقلت فأنت في الأمنية فاعملي .
كما نقل عن توبة ابن الصمة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب .
وقال القاسم بن محمد :غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها فغدوت يوما إليها فإذا هى تصلى صلاة الضحى وهى تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتبكى وتدعو وتردد الآية فقمت حتى مللت وهى كما هى فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فقلت أفرغ من حاجتى ثم أرجع ففرغت من حاجتى ثم رجعت وهى كما هى تردد الآية وتبكى وتدعو .
وقيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره .
و يقول الدكتور مصطفى السباعي “إذا همّت نفسك بالمعصية فذكرها بالله، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة قد انقلبت إلى حيوان.”
يقول أحد تلامذة الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: كنت أتعجب من حياة الإمام! وكنت من عجبي به أتبعه في خلواته وجلواته، ثم رأيت منه عجباً، رأيت أنه يقف في اليوم مرات يخرج من جيبه رقعة فينظر إليها ثم يعيدها، يفعل ذلك في اليوم مرات، يقول: فازددت إصراراً في معرفة السر على الورقة، فما زلت خلف الإمام أتبعه، وألحظه في خلواته وجلواته حتى وقعت الورقة في يدي، فنظرت فيها فإذا مكتوب فيها…
يا سفيان ! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، سبحان الله! سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه علم أن هذه النفس تغفل، فأراد أن يؤدبها وأن يربيها، فكتب هذه العبارة في هذه الورقة، فكلما همت نفسه بمعصية أو غفلت، أخرجها فنظر إليها وقرأها فتذكر الآخرة، وتذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل

ثالثًا: نماذج لمن راقبوا الله في سرهم وعلانيتهم
1- أصحاب الغار
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِى جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِى وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِى وَلِىَ صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِىَّ وَأَنَّهُ نَأَى بِى ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِىَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَىَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِى وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ. وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِىَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ عَنْهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً. فَفَرَجَ لَهُمْ. وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّى كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِى حَقِّى. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا فَجَاءَنِى فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِى حَقِّى. قُلْتُ اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا. فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِى . فَقُلْتُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا. فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِىَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِىَ." ([9]). والحلاب : الإناء الذى يحلب فيه اللبن ، ويتضاغون : يبكون ويصيحون
والفرق : مكيال يسع ستة عشر رطلا. فما فعلوا ما فعلوه إلا خوفًا من الله ومراقبته لهم.

2- بنت بائعة اللبن
لمَّا نهى عمر رضي الله عنه في خلافته عن خلْطِ اللَّبن بالماء، وخرج ذات ليلةٍ في حواشي المدينة، وأسند ظهْرَهُ إلى جدارٍ ليرْتاح، فإذا بامرأةٍ تقول لابنتها: ألا تَمْذُقين اللَّبنَ بالماء؟ فقالت الجارية: كيف أمذُقُ وقد نَهى أميرُ المؤمنين عن المذق؟! فقالت الأم: فما يُدْرِي أميرَ المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عُمر لا يعلمُه فإلهُ عمر يعلَم، ما كنت لأفعله وقد نَهى عنه.
فوقعتْ مقالتُها من عمر رضي الله عنه فلمَّا أصبح دعا عاصمًا ابنَه فوصفها له ومكانَها، وقال: اذهب يا بنَيَّ فتزوَّجْها، فتزوَّجها عاصمُ بن عُمر، فولدتْ له بنتًا فتزوَّجَها عبدالعزيز بن مَرْوان بن الحَكَم، فأتتْ بِعُمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه.
إنَّها ذرِّيَّة بعضُها من بعضٍ، ذرِّيَّة خيْرٍ لأمَّتِه وعقيدتِه، وإنَّها ثَمرةُ التَّمكين لهذا الدين في الأرض، ودفعة قويَّة لتوحيد شَمْلِ الأُمَّة الإسلاميَّة على تسخير ما وهبها الله من خوف وإخلاص لله - تعالى - في خِدْمة دينِها أوَّلاً، وفي السياقِ نفسِه توفيرُ إنتاجٍ غذائي يحدُّ من الأمراض القلبيَّة والجسديَّة، ومَن يُساعد على تقوية الإنتاج المحلِّي وتطويره.

3- من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منْه:
ذكر ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في "صفة الصفوة" قصَّة عجيبةً - واللهِ - تنمُّ عن عُمْق الخوْفِ من الله سبحانه وتعالى والأَوْلى - أخي الحبيب - أن تُكْتَب بماء العيون بدَلَ ماءِ الذَّهَب.
قال نافع: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال
له عبدالله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة.
فقال: إنِّي صائم، فقال له عبدالله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم!
فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر، وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟ قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي، قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟ فمضى الرَّاعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله، فما عدا أن قدِم المدينةَ، فبعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم ([10]).

4- والد عبد الله بن المبارك
كان هناك رجل اسمه نوح ابن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق، وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنيا قليلا ولا كثيرا ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء، أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين، جلس تحت شجرة وقال يا مبارك، أتني بقطف من عنب، جاءه بقطف فإذا هو حامض، فقال أتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، قال أتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه ؟
قال : والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو ما رقبتك ، ولا رقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أعجب به، وأعجب بورعه وقال الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والمستشار مؤتمن، وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت ؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم، أي نصيحة وأي مشورة ؟
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيرا من مبارك، قال أنت حر لوجه الله (أعتقه أولا)، ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال أعرض عليها، فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك، قالت أترضاه لي ؟ قال نعم.
قالت : فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكان الزواج المبارك من مبارك، فما الثمرة وما النتيجة ؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلا أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله ابن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيا بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله عز وجل في كل شي، أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامة الأمور.

رابعًا: الوسائل المعينة على مراقبة الله
1- التعرُّف على الله
فالإيمان بأسماء الله تعالى: الرقيب، والحفيظ، والعليم، والسميع، والبصير، والتعبد لله تعالى بمقتضاها يورث مراقبة الله تعالى. فالرقيب الذي يرصد أعمال عباده، والحفيظ الذي يحفظ عباده المؤمنين، ويحصي أعمال العباد، والعليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده، والسميع المدرك للأصوات، والبصير الذي يرى كل شيء.
قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{ [النساء/1]، وقال: }إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ{ [هود/57]، وقال: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [المجادلة/7]، وقال: }إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ [الإسراء/1].
والإيمانُ بأنَّ الله تعالى سميع يمنع من أن يصدر عن المسلم كلام يسخط الله، إنَّ عائشة رضي الله عنها لمَّا جاءت المجادِلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتها تشكو زوجها غاب عن سمعها كثير من كلامها، فلما نزلت السورة قالت: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ الله: }قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..." ([11])
وإذا خلوت بريبـةٍ في ظلمة --- والنفس داعـية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها --- إن الذي خلق الظلام يراني
وقال آخر:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل --- خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفُل ساعــة --- ولا أن ما تخفيـه عنه يغيب
ألم ترَ أنَّ اليوم أسرعُ ذاهــبٍ --- وأن غدا للناظــرين قريب
وهذا شاب وقع أسيراً لشهوته رأى فتاة فراودها عن نفسها وقال لها: لا يرانا أحد؟ ومن يرانا في ظلام كهذا غير الكواكب؟! فقالت: وأين مكوكِبُها؟ فقام وتركها.
وقال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه([12]). وقال رجل لوُهَيب بن الوَرْد رحمه الله : عظني ؟ قال : اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك .

2- علم الله بكل شىء
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [سورة البقرة الآية: 235]
أن تشعر أن الله مطلع على ما في نفسك، أي خاطر يأتيك، وأي حديث نفس داخلي يجري, الله عز وجل مطلع عليه، ويقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [سورة النساء الآية: 1]
رقيب على كل شيء، ونحن أحياناً نراقب ظاهر الإنسان، لكنه جل جلاله يراقب ظاهره وباطنه، أي: هذا الإنسان إذا بقي ساكتاً وساكناً مطلع على قلبه، إذا تحرك مطلع على حركته، إذا نطق مطلع على نطقه، إن كنت ساكتاً ساكناً مطلع على قلبك، إن تحركت يرى حركتك، إن نطقت يسمع كلامك، ما هي المعية العامة وما هي المعية الخاصة؟ : والآية الثالثة: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد الآية: 4]
في أشد حالاتك الخاصة هو معك، في أشد علاقاتك الحميمة هو معك، في خلوتك وفي جلوتك، في سرك وفي علانيتك، في حركاتك وفي سكناتك، هنا معكم بعلمه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد الآية: 4]
بعلمه، لأن المعية العامة تعني العلم، بينما المعية الخاصة تعني التوفيق والحفظ والتأييد والنصر.

3- الخوف من الله وحده
إنَّ المديرَ في إدارته، والمهندِسَ في مكتبِه، والمبَرْمِج في برمَجته، والمدرِّس في مدرسته، والعامِلَ في معملِه، والشرطيَّ في مخفرِه، والقاضيَ في محكَمَتِه، والصحفيَّ في جريدته، والكاتبَ في كتاباته، عمومًا: كلّ مسؤولٍ من موقِع مهمَّته؛ كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجُل راعٍ على أهل بيْتِه، وهو مسؤول عنْهم، والمرأةُ راعية على بيْتِ بعْلِها وولَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته))([13]).
كلٌّ في عملِه، لوِ استحضروا مُراقبةَ الله وعظَمَتَه وجلالَه، وقُدرتَه سبحانه على أن يقتصَّ من عبْدِه الضَّعيف، من جرَّاء عملٍ يُؤْذي ويهدِّد أمْنَ بلدِه الاقتِصاديّ والاجتِماعي والسياسي، لتحقَّقتْ رفاهية البُلدان، وانتشر العدْل، وسادَ تكافُؤُ الفُرَص، وقلَّت البطالة التي تنهش في فلذات أكْباد أبناء هذه الأُمَّة.
يُخطئ مَن يظنُّ أنَّ القوانين وحدَها هي الزَّاجِرة والرَّادِعة لكلِّ المُخالفات، هل تَمكَّنتْ من قطْعِ الطَّريق على الرَّاشي والمُرْتشي؟! هل منعتِ الزَّانيَ من الزِّنا؟! هلْ منعتِ الفَساد الإداري (البيروقراطيَّة)؟! هل حدَّت من حوادث السَّير؟!
هل منَعَتِ الغِشَّ في الأسواق والمؤسَّسات؟! هل قلَّصتْ من عدد الجرائم؟!
رد مع اقتباس